كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها، عن علي، وعثمان، وعائشة: يعضد بعضها بعضًا كما تعتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة، فمن بعدهم، فهو أمر معروف، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر، فالقائل: بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف، وفي الحديث الصحيح: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك، فغيره من الأحوال أولى، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال، فهو واضح، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال، لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة. وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأما كون حلق رأس المرأة مثلة، فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها، كما يدركه الحس السليم، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيهًا بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

غدائره مستشزرات إلى العلى ** تضل المداري في مثنى ومرسل

فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها، وهو كذلك. وقال الأعشى ميمون بن قيس:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ** تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوحل

فقوله فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن وقال عمر بن أبي ربيعة:
تقول يا أمتا كفى جوانبه ** ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر

مثل الأساود قد أعيى مواشطه ** تضل فيه مداريها وتنكسر

فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ونظيره قول الآخر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ** على الليث قنوان الكروم الدوالح

لأن قوله: يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته، وقد بالغ من قال:
بيضاء تسحب من قيام فرعها ** وتغيب فيه وهو وجف أسحم

فكأنها فيه نهار ساطع ** وكأنه ليل عليها مظلم

وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر، وقصدنا مطلق التمثيل، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها، وتشويه لها، فهو مثلة وبه تعلم: أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت وغير ذلك.
فإن قيل: جاء عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على حلق المرأة رأسها، وتقصيرها إياهـ. فما دل على الحلق، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس، من حديث وهب بن جرير ثنا أبي سمعت أبا فزارة، يحدث عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالًا وبنى بها وماتت بسرف فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجمًا» انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية. فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها، ولو كان حرامًا ما فعلته، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه.
وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثًا».
قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة. اهـ. من صحيح مسلم.
فالجواب، عن حديث ميمونة على تقدير صحته: أن فيه أن رأسها كان محجمًا، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض، لتتمكن آلة الحجم من الرأس، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها وقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وأما الجواب: عن حديث مسلم فعلى القول، بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر، فلا إشكال، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولًا يحصل به المقصود. قال النووي في شرح مسلم: والوفرة أشبع، وأكثر من اللمة. واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر. قاله الأصمعي. انتهى محل الغرض من النووي.
وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة: من أنها لا تجاوز الأذنين. قال في القاموس: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة. اهـ منه.
وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة: وهي التي ألمت بالمنكبين. وقال ابن منظور في اللسان: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، وقيل: ما سال على الأذنين من الشعر. والجمع وفار. قال كثير عزة:
كأن وفار القوم تحت رحالها ** إذا حسرت عنها العمائم عنصل

وقيل: الوفرة أعظم من الجمة. قال ابن سيده: وهذا غلط إنما هي وفرة، ثم جمة، ثم لمة، والوفرة: ما جاوز شحمة الأذنين، واللمة: ما ألم بالمنكبين. التهذيب، والوفرة: الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين، وقيل: الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة، إلى أن قال: والوفرة شعر الرأس، إذا وصل شحمة الأذن. انتهى من اللسان.
فالجواب: من أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصرن رؤوسهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعًا كليًّا من التزويج، ويأسهن منه اليأس، الذي لا يمكن أن يخالطه طمع، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه صلى الله عليه وسلم إلى الموت. قال تعالى: {وما كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] واليأس من الرجال بالكلية، قد يكون سببًا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة، لا تحل لغير ذلك السبب.
وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: قال عياض رحمه الله تعالى: والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون، والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتركن التزين، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفًا لمؤنة رؤوسهن، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لا في حياته. كذا قاله أيضًا غيره، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء. انتهى كلام النووي. وقوله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليهن غيرهن، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتتزين للخطاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة. وقد يحب بعضهم العجوز كا قال القائل:
أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ** عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند

كثوب اليماني قد تقادم عهده ** ورقعته ما شئت في العين واليد

وقال الآخر:
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا ** لكان هوى ليلى جديداص أوائله

والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير}.
الضمير في قوله: منها. راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُوماتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} [الحج: 28] وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضًا في قوله تعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} [الحج: 36] إلى قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} [الحج: 36] الآية ففي الآية الأولى: الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن، وبغيرها، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل، وإطعام البائس الفقير، وفي الآية الخاصة بالبدن: أمر بالأكل، وإطعام القانع والمعتر.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان:
الأول: حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر، أو الندب والاستحباب؟
المبحث الثاني فيما يجوز الأكل منه لصاحبه، وما لا يجوز له الأكل منه، ومذاهب أهل العلم في ذلك.
أما المبحث الأول: فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب، والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر: هي ما زعموا من أن المشركين، كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك.
وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون، وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره، وقال القرطبي في تفسيره: فكلوا منها: أمر معناه: الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل، أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل وشذت طائفة، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فكلوا وادخروا وتصدقوا» قال الكيا قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه. انتهى كلام القرطبي.
ومعلوم: أن بيع جميعه لا وجه لحليته، بل ولا بيع بعضه، كما هو معلوم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى القولين دليلًا: وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا، لأن الله تعالى قال: {فَكُلُواْ مِنْهَا} في موضعين. وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لدليل صارف، عن الوجوب، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، منها آية الحج التي ذكرنا عندها مسائل الحج.
ومما يؤيد أن الامر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده «أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة، منها فأكل منها وشرب من مرقها» وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة، من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها، وهذا يدل على أن الأمر في قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا} ليس لمجرد الاستحباب والتخيير، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب.
والحاصل: أن المشهور عند الأصوليين: أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لصارف عنه، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية، وقد دلت عليها أدلة الوحي، كما قدمنا إيضاحه.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل، ووجوب الإطعام. والأظهر أنه: لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، وقد قال بعض أهل العلم: يتصدق بالنصف، ويأكل النصف، واستدل لذلك بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} قال: فجزأها نصفين نصف له، ونصف للفقراء، وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، واستدل بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} [الحج: 36] فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له، وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى، والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة. قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل بيأس بؤسًا وبئسًا: اشتدت حاجته، فهو بائس وأنشد أبو عمرو:
لبيضاء من أهل المدينة لم تذق ** بئيسًا ولم تتبع حمولة مجحد

وهو اسم وضع موضع المصدر. اهـ. منه يعني: أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف، ومعناه المصدر، والفقير معروف، والقاعدة عند علماء التفسير: أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وعلى قولهم: فالفقير هنا يشمل المسكين، لأنه غير مذكور معه هنا، وذلك هو مرادهم، بأنهما إذا افترقا اجتمعا، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرأ، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة البلد، ومما استدل به القائل: إن الفقير أحوج من المسكين، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى: {أَمَا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79] الآية، قالوا: فسماهم مساكين، مع أن عندهم سفينة عاملة للإِيجار.
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير: أن الله قال في المسكين: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قالوا: ذا متربة: أي لا شيء عنده. حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب.
قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له. وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس، ولا غيره انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سيد

فسماه فقيرًا مع أن له حلوبة قدر عياله.
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور، فأغناها ذلك عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.
وأما المبحث الثاني: وهو ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها: فذهب مالك رحمه الله، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء لصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين وقال اللخمي: كل هدي واجب في الذمة، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران، أو تعدي ميقات، أو ترك النزول بعرفة نهارًا، أو ترك النزول بمزدلفة أو تكر رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده. أما جزاء الصيد، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغها محلهما، ولا يؤكل منهما بعده.